ترامب المنتقم

trump

بالوقت الذي يقضي فيه الخبراء و المتخصصين بعلم النفس عشرات الساعات أسبوعياً لتحليل و فهم شخصية دونالد ترامب المثيرة للإهتمام بهدف الخروج على الهواء عبر وسائل الإعلام المختلفة و الحط من قدر ترامب أو حتى تمجيده فإن جميع تلك التشخيصات سترمى عرض الحائط بنهاية الأمر لأنها لا تعتمد على النهج الأكاديمي الذي يجب أن يتبع بمثل هذه المسائل ، فلا يمكن لأيٍ كان أن يقوم بتحليل شخصية إنسان معين من خلف الشاشات على إعتبار أن التشخيص الأكاديمي يرغم المشخص على قضاء الوقت مع الشخصية المراد تشخيصها بالعالم الحقيقي لا الإفتراضي! يمكنك بكل بساطة أن تبحث عن تحليلات مختلفة لشخصية دونالد ترامب و لكنك بكل تأكيد لن تتمكن من الوثوق بتلك التشخيصات بأي شكل من الأشكال على إعتبار أن الإنسان بطبعه سيلين إلى التشخيص الأقرب إلى قلبه متناسياً الطرق الغير أكاديمية التي بنيٌ على أساسها ذلك التشخيص.

لا يبدو أن دونالد ترامب قد آمن يوماً بالطب النفسي و لا يبدو أنه شارك أفكاره و مخاوفه مع شخص أكاديمي قادر على تشخيصه بالشكل المطلوب ، أو حتى في حالة حدوث ذلك لم يسبق لأحد و أن إدعى قيامه بجلسات ممثالة مع دونالد ترامب و هذا أمر طبيعي على إعتبار أن هذه الأمور تحكمها درجة عالية من السرية خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بأحد أغنى أغنياء الولايات المتحدة الأمريكية ، هذا لا يعني أن دونالد ترامب قد مر بهذه التجربة بالفعل و لكن المغزى أننا لن نكون قادرين على تحليل شخصية ترامب بشكل أكاديمي و على ذلك سيتوجب علينا أن نعتمد على كلمات الرجل و أفعاله فقط لا غير.

لا يمكن لإثنان الإختلاف على أن شخصية دونالد ترامب صِدامية من الدرجة الأولى حيث يفضل دونالد أن يواجه من يعتبرهم خصومه بشكل مباشر و بلا أي قيود ، و قد ظهرت هذه الخصلة بـ ترامب و بشكل واضح ليس بحاجة لأي تحليل خلال حملته الإنتخابية التي أوصلته إلى البيت الأبيض ، فمن مواجهته لـ جيب بوش إلى صدامه مع كايسيك و كروز و روبيو إلى حربه العشواء مع هيلاري كلينتون ، أثبتت جميع تلك الأحداث أن دونالد ترامب يمتلك تلك الخصلة و أنه يعتمدها أيضاً كتكتيك خاص للمفاضلة بين موظفيه ، و هذا الأمر ليس مفاجئاً لأي متابع لدونالد ترامب حيث أن فكرة برنامجه التلفزيوني الشهير إعتمدت بشكل مباشر على الصِدام بين موظفيه لينجو الأفضل من بينهم على أن تتساقط البقية كأوراق الخريف البالية التي لم و لن يكترث لها دونالد أبداً ، فلا مكان للضعفاء بإمبراطورية دونالد ترامب ، أو على الأقل هذه هي الفكرة التي يرغب دونالد بإيصالها للآخرين.

كلمات دونالد ترامب على مر السنين تحكي عن نفسها من هذا الجانب بل و تخبرنا أكثر من ذلك بكثير ، فالرجل يؤمن بشكل جدي بضرورة الإنتقام من أولئك الذين قللوا منه أو رفضوا مساعدته بوقت معين من حياته المليئة بالدراما ، ليس هذا فحسب بل يعتبر ترامب أن تلك الخصلة يجب تواجدها بأي إنسان باحث عن القوة و الإحترام بوسط مشحون لا ينجو من قسوته كثر ، هذه هي بكل بساطة الطريقة التي ينظر دونالد ترامب بها للأمور ، لنصل إلى هذه النتيجة لم نعتمد على تحليل نفسي لشخصية دونالد ترامب و لم نقرأ تحليلات من إدعى فهمه لتلك الشخصية بل إطلعنا بكل بساطة على الكلمات التي نطق بها دونالد ترامب منذ ثمانينيات القرن الماضي.

و لتفهم العلاقة الوطيدة بين دونالد ترامب و فكرة الإنتقام بشكل أفضل ما عليك إلا قرائة الفصل السادس من كتابه Think Big & Kick Ass و الذي يتحدث من خلاله دونالد ترامب بنفسه عن أهمية الإنتقام بحياته العملية ، ذاكراً قصة الإمرأة التي أنقذها من وظيفتها الحكومية البائسة ليعينها بمؤسسته و يقوم بتدريبها و إدخالها عالم التجارة من أوسع أبوابه ، و بعد كل إهتمامه بها و أثناء الفترة الصعبة التي مر بها بتسعينيات القرن الماضي طلب منها خدمة خاصة لكنها أدارت ظهرها له ، ببساطة طلب منها ترامب حينها أن تجري إتصالاً مع أحد أصدقائها ممن يشغل مركزاً حساساً بأحد البنوك لكنها رفضت ذلك ليقوم بطردها من وظيفتها مباشرةً ، هذه الإمرأة بعد ذلك أنشأت مشروع تجاري خاص بها و فشلت فشلاً ذريعاً حيث خسرت كل أموالها قبل أن يتركها زوجها و تتساقط أوراق حياتها واحدة تلو الأخرى “ كنت سعيد للغاية عند علمي بأن مشروعها التجاري قد فشل ، لقد إنقلبت ضدي بعد كل ما فعلت من أجلها طلبت منها خدمة واحدة فقط و لكنها رفضت مساعدتي ، لقد خسرت بيتها ، زوجها الذي تزوجها من أجل المال فقط تركها مما أسعدني ، على مر السنوات تواصل معي كثر طالبين توصية لها و لكنني لم أشجع أحداً على التعامل معها ، لا أستطيع تحمل إفتقارها للولاء ، أضع الأشخاص الموالين لي بمراكز عالية و أهتم بهم بشكل جيد للغاية ، أقوم بمساعدة أولئك الذين يظهرون ولائهم لي بالأوقات الصعبة ، هذه المرأة لم تكن وفية على الإطلاق لذا تعهدت بجعل حياتها بائسة ، تتصل بي طالبة أن نخرج للغداء  أو للعشاء و لكني لا أرد على مكالماتها ، على مر السنين تَسَببتُ بنجاح العديد من الأشخاص ، بعضهم ممتن لما قمت به معهم و البعض الآخر غير ذلك ، بعضهم يمتلك ذاكرة جيدة يتذكرون كل ما قمت به من أجلهم بالرغم من أنهم لم يعودوا مرتبطين بك ، و لكن الأغلبية تنسى “.

يعتبر الولاء أحد أهم العوامل التي يقيم على أساسها دونالد ترامب الشخصيات من حوله ، ببساطة يمكنك الإطلاع على العشرات من المقابلات و التصريحات الإعلامية لأشخاص سبق لهم العمل بشكل مباشر مع دونالد ترامب ، البعض من هؤلاء ربطتهم علاقة طيبة بالملياردير و آخرين جمعتهم علاقة كره متبادل و لكن الأكيد أن جل هؤلاء يتفقون على أن نوع العلاقة التي تربط أي إنسان بدونالد ترامب تعتمد بشكل مباشر على مدى ولاء الشخص و وفائه له.

بكتابه تحدث ترامب عن إنتقامه من المليونير ريتشارد برانسون و عدد آخر من الشخصيات الشهيرة ، معتبراً أن رد الصاع صاعين للشخص المسيء هو أمر واجب على كل شخصية قوية ، و أن الإنتقام من أعدائك يرسل بالضرورة رسالة واضحة المعالم للآخرين بعدم محاولة التعدي على حقوقك و إلا فإن العواقب ستكون وخيمة ، ترامب يؤمن إيماناً تاماً بأنه عندما يتعرض الإنسان للضربات من أعدائه فإن واجبه يحتم عليه أن يرد الصاع صاعين أما الضعف و الهوان و المسامحة و غيرها من المصطلحات الناعمة فلا مكان لها بقاموسه أبداً.

أحب الإنتقام لنفسي عندما يتم التعدي علي من قبل الآخرين ، هذه هي الحقيقة ، لا زال هنالك من يحاول خداعي من الناس و بأحيان قليلة ينجحون بتحقيق ذلك و لكن عندما يفعلون أقوم بمهاجمتهم ، هل تعرف ماذا؟ لا يريد الناس اللعب حولي بقدر لعبهم حول أشخاص آخرين لأنهم يعرفون بأنهم سيدخلون أنفسهم بمشكلة كبيرة ، إنتقم لنفسك دائماً ، بالتجارة يتوجب عليك أن تنتقم من الأشخاص الذين يقومون بالتعدي على حقوقك ، يجب عليك أن تتعدى عليهم بخمسة عشرة ضعفاً ، لا تقوم بذلك للإنتقام من الشخص الذي قام بالإعتداء عليك فحسب بل لتُري الآخرين الذين يشاهدون الواقعة ماذا سيحدث لهم إذا ما إعتدوا عليك ، إذا هاجمك أحدهم لا تتردد بمهاجمتهم بكل ما أوتيت من قوة “.

قم بكتابة قائمة بالأشخاص الذين قاموا بالإساءة إليك ، بعدها تراجع و إنتظر الوقت المناسب للإنتقام ، ثم إثأر منهم بالوقت الغير متوقع ، إذا تحصلت على إعتذار من أحدهم مع شيك مصرفي برقم مقبول إقبل العرض و إنسى الأمر ، إذا لم يحدث ذلك إنتظر فرصتك و إضرب بقوة…. ، كطفل يطلب أهلك و أساتذتك بالمدرسة أن تتفادى القتال و أن تتفاهم مع بقية من حولك ، عندها أرادوا أن يحموك من واقع الحياة القاسي الذي نعيشه ، و لكن بعالم البالغين الأمور مختلفة ، الكثير من الناس السيئين سيحاولون الضغط عليك و يمكن لهم أن يتعاملوا ببغض ، عندما يهاجمك أحدهم لا تتراجع و تتعامل بلطافة مع الموقف بل إنتقم لنفسك ، هذه ليست نصيحة نموذجية و لكنها نصيحة مبنية على طبيعة الحياة…. “ [9]

هذه هي الطريقة التي يتعامل بها دونالد ترامب مع من حوله ، و إذا ما دققنا بكلمات كتابه الذي نُشر عام 2007 و قارناها بكل ما قام به منذ ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة عام 2015 سيتضح لنا بما لا يدعو للشك أن ترامب الشخص لم يتغير قط و أن الطريقة التي يتعامل بها مع الآخرين متطابقة مع الكلمات التي نطق بها على مر سنين حياته ، من المهم أن ندرك عند هذه النقطة أن شخصية دونالد ترامب ليست شخصية طبيعية و لا تعتمد بأي شكل من الأشكال على قيم أو أخلاق أو مباديء مجتمعية متعارف عليها ، فـ دونالد ترامب يتبع مبادئه و أخلاقه و قيمه الخاصة به فقط و أي شخص يفشل بفهم هذه النقطة سيجد التعامل مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أمراً صعب المنال.

لا يمكنك بأي حال من الأحوال أن تكسب معركة تكتيكية أمام شخصية صِدامية مثل شخصية دونالد ترامب لأن كسبك للمعركة سيعني بالضرورة خسارتك على المدى الطويل ، حيث أن شخصية دونالد ترامب تحتم عليه العودة للإنتقام بأي شكل من الأشكال فيما إذا أحس بأنه تم التلاعب به بطريقة أو بأخرى ، و عادة عندما يشعر دونالد بأنه تم خداعه أو تضليله فإنه يعود لخوض المعركة بهدف الإنهاء على خصمه تماماً و هو ما شاهدناه على أرض الواقع أكثر من مرة على مر السنوات الماضية و آخر مثال على ذلك هي معركته أمام هيلاري كلينتون و التي تعرضت لأكبر صدمة بحياتها على الإطلاق.

ترامب الرئيس لم يتغير كثيراً عن ترامب المرشح الرئاسي فلا يزال يعتمد أسلوبه الصِدامي الصارم بالتعامل مع من حوله ، أحد ضحاياه كان نائب مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا جيف فليك الذي يمكن تعريفه بأحد أكثر الشخصيات تحفضاً بالحزب الجمهوري ، فليك لم يدعم ترامب خلال حملة الأخير الإنتخابية حيث أنه أُعتبر حينها أحد الأصوات المناوئة لوصول ترامب للبيت الأبيض و إن لم يجاهر بذلك حينها بقدر معارضته لترامب من خلف الكواليس ، أما بعد إنتخاب ترامب فقد إنتقده بشكل علني و مباشر بكتابه Conscience of a Conservative و هو ما أغضب ترامب و تسبب بحرب كلامية علنية بين الرجلين ، هذه الحرب إنتهت كما جرت العادة بالسنوات الأخيرة بإنتصار ترامب الذي رفض دعم فليك للحفاظ على كرسيه بمجلس الشيوخ مما أجبر هذا الأخير على إعلان إعتزاله السياسة بعد أن أظهرت الأرقام إستحالة فوزه بالسباق الإنتخابي بلا دعم مباشر و رسمي من قبل رئيس الولايات المتحدة الذي يعتبر قائد الحزب الجمهوري و محرك الأصوات الأول عبر البلاد.

إن كنت أحد السياسيين الذين يعملون بواشنطن العاصمة أو أحد دبلوماسيي البلدان التي لها علاقة تعاون مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية فإن مهمتك الأولى و الأخيرة تكمن بضرورة الإبتعاد عن أي سوء فهم أو خلاف مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، فتلك الخلافات بالتأكيد لن تخدم مصالحك أو مصالح حلفائك على المدى الطويل ، باتت القائمة السوداء التي يبقيها دونالد ترامب بمكتبه أكثر الأمور التي تقلق السياسيين حول العالم ، و إن لم تصدق كلمات ترامب نفسه فما عليك إلا أن تسأل ضحاياه ، و تلك قصة أخرى تفتح في وقتها.

 

10 comments

  1. أستاذ محمد
    لا يمكنني وصف مدى حماسي لقراءة كتابك خصوصاً بعد حديثنا الأخير ، ترامب شخصية مثيرة للجدل بحق و لأكون صادقاً لم أَجِد من هو متوازن بنظرته تجاجه بقدرك ، رجاءاً لا تتوقف عن طرح روائعك

    Like

  2. إن كان لي عتب عليك يا محمد فهو بخلك بطرح المقالات .. انا من متابعيك منذ إشرافك بموقع كورة .. زمن طويل و لكن عودك رنان لا يزال!

    ما شاء الله عليك .. إستمر حبيبي

    Like

    1. لي الشرف بمتابعتك لي أخي ماجد ، من حقك أن تعتب علي و صدقني أنا شخصياً أعتب على نفسي لإبتعادي عن الكتابة لفترة طويلة ، شكراً على مرورك و لطفك.

      Like

  3. كعادتك مبهر استاذي ، شخصياً لا أستسيغ ترامب و لكني لا أستطيع مقاومة كلماتك.
    بإنتظار الكتاب

    Liked by 1 person

  4. ترامب شخصية غريبة و مثيرة للجدل شخصياً كنت أتوقع فوز هيلاري لكنه فاجأ الجميع!

    شكرًا محمد على الطرح ، بانتظار الكتاب

    Liked by 1 person

  5. سردك قصصي جميل. حقيقة لم يسبق لي قراءة كتاب ترمب الذي ذكرته لكنك حمستني لقراءته.

    Like

  6. أستاذ محمد شكرًا على مشاركتك لهذا المقال معنا بالقروب

    نرجو ان نتحصل على جديدك بشكل دوري و بالتوفيق لك عزيزي

    Like

    1. شكراً على روحكم الطيبة و الإستقبال الراقي أستاذ فهد ، إستمتعت بنقاشي معك و الشباب حقيقة أخجلتموني بكرم الضيافة.
      سيكون لنا لقاءات قادمة بلا شك ، إحترامي.

      Like

  7. كل عام و انت بخير أستاذ محمد ، سعدت بخير عودتك للكتابة و سعدت اكثر بزيارتك للقروب مساء الامس.

    اُسلوب طرحك للمواضيع و المقالات اعتدنا أن يكون مختلف و مميز و اعتقد ان هذا بالتحديد ما سنتحصل عليه من خلال كتابك القادم.

    امنياتي لك بدوام الموفقية

    Like

Leave a comment