التغيرات المناخية و تأثيرها على غذائنا

التغيرات المناخية تعد أحد أهم المشاكل التي تعتري البشرية بالعصر الحديث إن لم تكن أهمها، تتقاذف هذه المشكلة قوى سياسية و إقتصادية عالمية و كلٌ له أجندة خاصة تساهم بدعم أفكار و مفاهيم و رؤى معينة لمؤسسات عملاقة تتحكم بالاقتصاد العالمي من خلف ستائر معتمة، إلى درجة حدت البعض بإيهام المتلقي بأننا بني البشر من تسبب بهذا التغير المناخي و أننا سنتسبب بدمار كوكبنا إن لم نستمع لنصائحهم و الاستراتيجية التي خطوها لإنقاذ كوكب الأرض! هؤلاء للأسف يعتمدون على صورة راسخة بأدمغتهم ترسم الأجيال الحالية بالغباء و الكسل، فمن ذا الذي سيقرأ ليجادل و هل هنالك من يقرأ بهذا العصر على أية حال؟

هؤلاء أنفسهم سيسيئهم أن تعرف بأن التغير المناخي هو جزء لا يتجزأ من دائرة الحياة على كوكب الأرض، و سيسيئهم أكثر بأن تعرف أن كوكبنا قد مر بالفعل بأكثر من تغير مناخي و إلا لما دخلنا عدد من العصور الجليدية و لما ذاب كل ذلك الجليد ليعود الكوكب الأزرق مشعاً أخاذاً كما كان و لتستمر دائرة الحياة، أي نعم يتسبب الإنسان يومياً بزيادة نسبة الغازات المضرة و منها بلا شك ثاني أكسيد الكربون مما يتسبب بالتلوث البيئي الذي نسمع عنه و نتعايش معه بشكل يومي و هو أمر يجب أن نتصدى له جميعاً، و لكن ربط التلوث البيئي بالتغير المناخي على المدى الطويل يعد أمر مضحك و غير دقيق علمياً على الإطلاق، فإن كان الإنسان هو المتسبب بالتغير المناخي فمن يا ترى تسبب بالتغيرات المناخية التي أثبت العلم أنها تحدث بشكل منتظم منذ ملايين السنين؟

المناخ يحكم بشكل دقيق و منظم أنماط توزيع و وفرة النباتات و الحيوانات و المخلوقات الدقيقة على كوكب الأرض، معظم أصناف المخلوقات تمتلك قدرة تحمل محدودة لا تستطيع تجاوزها، و جميع هذه المخلوقات الحية تلعب أدوار أساسية محددة لها بنطاق نظامها البيئي، و ترتبط أصناف المخلوقات ببعضها البعض باستخدامها المشترك للطاقة و دائرة العناصر الغذائية بذلك النظام.

و تشير الدراسات إلى أن بعض الزواحف على سبيل المثال غيرت من خصائصها الحيوية لتتكيف مع التغيرات المناخية التي عصفت بالعصر الميوسيني قبل ما يقارب العشرين مليون سنة، و ذات التغير طرأ على بعض أنواع الطيور إثر تغيرات مناخية مماثلة بالعصر البليوسيني قبل ما يقارب المليونين سنة، مخلوقات أخرى انقرضت إلى الأبد لأن التغير البيئي المفاجيء فاق قدرتها على التكيف و لأن نظامها البيئي فشل بتوفير الحماية و الغذاء اللازمين للبقاء و الصمود و التكيف مع تلك التغيرات.

درجة الحرارة على كوكب الأرض ارتفعت بمقدار 0.8 خلال المئة سنة السابقة، هذا الارتفاع الملحوظ بدرجات الحرارة تعرض له كوكبنا من قبل، فمثلاً قبل حوالي 90 مليون سنة كانت درجات الحرارة أشد بمقدار 6 إلى 8 درجات مئوية، و على مدار التاريخ كان هنالك دائماً قانون موحد إتبعته معظم الكائنات الحية بشكل لا إرادي، عندما ترتفع درجات الحرارة بذلك المقدار سيتوجب على تلك الكائنات أن تنتقل لمناطق أقل حرارة أو أن تتكيف مع الحرارة بتغيير بعض خصائصها أو أن تفارق الحياة.

كل هذه الحقائق السابق ذكرها تقودني لدراسة نشرت مؤخراً لعدد من الباحثين من جامعتي واشنطن و كولورادو الأمريكيتين، تتمحور الدراسة حول التغيرات المناخية التي يتعرض لها كوكبنا حالياً و تأثيرها المباشر على المحاصيل الزراعية و هو الأمر الذي قد يتسبب بنقص حاد بالمحاصيل الغذائية لملايين من البشر حول العالم، هذه التغيرات و بالأخص الارتفاع بدرجات الحرارة ستتسبب بارتفاع نسبة الحشرات بشكل ملحوظ مما يعني بالضرورة تضرر المحاصيل الزراعية حول العالم، الدراسة وجدت بأن عائدات محاصيل الرز و القمح و الذرة حول العالم ستتأثر بمقدار 10٪ إلى 25٪ مع كل ارتفاع بمقدار درجة مئوية واحدة و هو ما يشكل خطر محدق بالبشر على اعتبار أن محاصيل الرز و الذرة فقط تشكل 42٪ من السعرات الحرارية التي يتم استهلاكها حول العالم، التأثير الأكبر ستتعرض له محاصيل القمح و الذرة بالمناطق المعتدلة مناخياً مثل الولايات المتحدة و فرنسا و الصين و روسيا، بينما لن تتأثر محاصيل الرز بذات الدرجة على إعتبار أنها تتواجد بمناطق ذات حرارة مرتفعة على أية حال، هذا طبعاً بالإضافة لعوامل أخرى قد تتسبب بدمار المحاصيل الزراعية بشكل أسرع مثل الجفاف و الحرائق.

أهمية المحاصيل الزراعية لا تكمن فقط بكونها جزء من دائرة تغذية الإنسان بل بكونها جزء من دائرة الحياة بشكل عام، و لا يجب أن نهضم حق الحيوانات من هذا الجانب لأنها تعتمد بنسبة كبيرة بتغذيتها على هذه المحاصيل، أي أن النقص بالمحاصيل سيتسبب بنقص الحيوانات التي يعتمد عليها الإنسان لاستمداد البروتين، و من هذا الجانب سيتعين على المؤسسات العملاقة و الحكومات حول العالم أن تتخذ خطوات جريئة للتكيف مع واقع كوكبنا اليوم، أما نحن بالشرق الأوسط و بسبب درجات الحرارة المرتفعة جداً مقارنة ببقية أنحاء العالم فيجب علينا أن نقود جهود التكيف مع التغيرات المناخية بأسرع وقت ممكن لنقلل من الأضرار التي قد تلحق بالمحاصيل الزراعية و الثروة الحيوانية بالمنطقة مما قد يتسبب بارتفاع سريع و مبالغ به بأسعار المنتجات الزراعية و منتجات الألبان و اللحوم بالمستقبل.

أعجبتني كثيراً حكومة دبي بالفترة الماضية بعد إعتمادها إنشاء عدد كبير من المزارع العمودية أو ما يسمى بـ vertical farms ، هذه المزارع تعد حل مباشر و مضمون أمام ارتفاع درجات الحرارة و الجفاف بالمنطقة، لتغذي النباتات بالضوء تعتمد هذه المزارع على تقنية الـ LED كما أنها تستخدم ماء أقل بنسبة 99٪ من المحاصيل الزراعية الأخرى، و بذلك ينتج عنها محاصيل صحية ذات جودة عالية و بشكل منتظم بخلاف المزارع المعتادة التي تتعرض لعوامل طقس متغيرة قد تتسبب بخسائر كبيرة بالمحصول العام، هذه التقنية تعد حل سريع و فعال للمشاكل التي قد تواجهنا بالسنوات الـ 50 القادمة بسبب تقلبات الجو و ارتفاع درجات الحرارة و بالتالي علينا جميعاً أن نبارك مثل هذه الخطوات و أن نحث الشركات المهتمة بالقطاع الخاص على تبني الفكرة على نطاق واسع لنحقق الهدف المنشود و هو ضمان آلية واضحة للحفاظ على دائرة التغذية لنتكيف مع التغيرات المناخية المتوقعة مع تفادي الأضرار التابعة لها بنسبة كبيرة.

التغير المناخي واقع لا مفر منه، دعونا نتكيف مع هذه التغيرات لنضمن مستقبل الأجيال القادمة.

5 comments

  1. سلمت يمناك أستاذ محمد متألق كعادتك

    أتمنى ان نلحظ اهتمام شركات القطاع الخاص مثل هذه المبادرات للتكيف مع التغيرات المناخية
    مقالك ممتع كالعادة يا صديقي ربي يحفظك

    Liked by 1 person

  2. اتذكر عندما ناقشنا هذا الموضوع بالملتقى يا محمد انت ما شاء الله عليك تمتلك معلومات واسعة بهذا المجال و أتمنى منك الا تبخل علينا بحضورك اولا و بمقالاتك ثانيا

    يعطيك العافية و لنا لقاء قريب بإذن الله

    Liked by 1 person

  3. إستمتعت بكل كلمة محمد ، بالفعل هذا الموضوع مهم جدا يلقى اهتمام منا جميعاً و لابد تكون هنالك بوادر من القطاعين العام و الخاص بهذا المجال. المزارع العمودية اللي ذكرتها فكرة عبقرية اهنيء حكومة دبي عليها و أحب كذلك اهنئك على عقليتك و نظرتك للعالم من حولك

    اجمل الأماني
    ليلى

    Liked by 1 person

Leave a comment