تأثيرنا على أنتاركتيكا .. حقيقة أم خيال؟

لطالما كانت أنتاركتيكا أو القارة المتجمدة الجنوبية لغزاً محيراً لكثيرين على اعتبار أنها من الأراضي التي يصعب الوصول إليها، عملياً لا يسكن هذه القطعة من سطح الأرض بشر و لم يكتشف العلماء سكان أصليين سبق و أن قطنوا هذه البقعة من سطح الكرة الأرضية، و ليس من المستغرب ألا يكون الإنسان القديم قد أظهر شغفاً باستكشاف هذه البقعة المتجمدة من الكوكب فظروف الحياة فوق جليدها قاسية للغاية و هو ما قد يتجاوز طاقة الإنسان و قدرته على التحمل، حتى اليوم و بعد كل الإعجازات العلمية و التقدم التقني الصارخ لا يزال الإنسان المعاصر ينفر من فكرة زيارة تلك البقعة، فإن لم تكن عالماً يعكف على إجراء أبحاث أكاديمية لحل ألغاز القارة و ربطها بتأثير التغيرات المناخية على مستوى مياه المحيطات فلا أعتقد بأنك ستقضي وقتاً ممتعاً هناك، إلا إن كنت قد سئمت مجاورة بني البشر و قررت أن تذهب إلى مكان لن ترى أو تصادق أو تتحدث فيه إلى أحد على الإطلاق!

بشكل عام لا يقطن هذه القارة إلا فئة قليلة لا تتعدى بضع مئات من الباحثين و التلامذة و الأخصائيين القادرين على إجراء أنواع مختلفة من الإختبارات للكشف عن معلومات قيمة قد تفيدنا بيوم من الأيام، هؤلاء تركوا نِعمة الدفئ و رحلوا صوب صقيع لا يطاق لتحقيق مئاربهم، و ليحققوا ذلك هُيئت لهم مراكز خاصة للبحث العلمي بأماكن مختلفة من القارة المتجمدة، لن ينعموا بأسلوب حياة مقارب لك و أنت تقرأ هذه الكلمات و لكن هذه المراكز على الأقل ستقيهم من التجمد حتى الموت.

قد تبدو القارة المتجمدة الجنوبية أرض غير مهمة بالنسبة للكثيرين و لكنها لطالما أثرت بشكل أو بآخر على باقي القارات المجاورة لها على الخريطة، و لنتعمق أكثر بتأثير هذا الجليد على حياتنا علينا أولاً أن نمحي الصورة التقليدية لأنتاركتيكا بأدمغتنا، أرض هذه القارة لا تشبه الأرض التي نعيش عليها! فـ بالوقت الذي نستمتع أنا و أنت بقيادة مركباتنا على الطرقات و زراعة ما طاب لنا بإستخدام التربة و بالوقت الذي نجاور به الحيوانات و النباتات يقضي الباحثون أوقاتهم على أنتاركتيكا محاطين بصفائح بيضاء جليدية لا نهاية لها، هذه الصفائح تكونت على مدار مئات الآلاف من السنين متأثرة بتساقط الجليد على تلك المنطقة من الكوكب إلى أن وصل متوسط سُمك تراكم هذه الصفائح إلى 1.6 كيلو متر إلى الأسفل، هل يمكنك تخيل ذلك؟

نسبة إلى دراسة نشرتها وكالة ناسا للفضاء فإن كتلة الصفائح الجليدية بالقارة تغيرت بشكل ملحوظ ما بين عامي 2002 و 2016، يؤكد الباحثون القائمون على الدراسة أنه بعد عمليات المراقبة بإستخدام الأقمار الصناعية تأكد خسارة القارة لما يقارب 125 غيغا طن من الثلوج بالعام الواحد و هو ما يتسبب بارتفاع منسوب مياه المحيطات بواقع 0.35 مليمتر بنفس الفترة، دراسات أكثر حداثة قدرت الأرقام بأكثر من 200 غيغا طن بالعام الواحد، طبعاً عند هذه النقطة لعلك تساءلت و ما هو الغيغا طن؟ ببساطة الغيغا طن يساوي مليار طن متري Metric Ton، و لتوضيح الصورة بشكل أبسط فإن القارة المتجمدة تخسر كل 10 دقائق نفس كمية المياه التي يستخدمها سكان مدينة لندن كل يوم، أي أن ما تخسره أنتاركتيكا خلال 10 دقائق فقط يكفي تغطية احتياج ما يتجاوز 8 مليون إنسان من الإستخدام اليومي للمياه، أرقام مذهله أليس كذلك؟ و لكن مالذي يتسبب بهذا الذوبان؟

ما نعرفه أن هنالك سببان رئيسيان لذوبان الجليد بالقطب المتجمد الجنوبي، أولهما أن الجو الدافئ ينتج عن دفئ المحيطات و هو ما يتسبب بانتشار الماء الدافئ و تحركه نحو الأعلى ليقترب من السطح و بالتالي يسرع من وتيرة ذوبان الجليد من الأسفل، السبب الثاني يتعلق بسخونة الجو التي تتسبب بذوبان الجليد و بالتالي تساقط قطع الجليد الكبيرة بمياه المحيط و هو ما يتسبب بالضرورة بارتفاع منسوب المياه حسب حجم و كتلة الجليد، هذه الحقائق لا يمكن لأحد ضحدها لأنها تعتمد اعتمادًا كلياً على أرقام واضحة لكن التساؤل الأكبر و الأهم يتمثل بدور الإنسان بذوبان الجليد، هل يمكننا اعتبار الاحتباس الحراري سبباً رئيسياً لهذا الذوبان أم أنه جزء من دائرة الحياة على كوكب الأرض؟

الحقيقة أن العلماء لا يمتلكون إجابة واضحة حول هذه المشكلة فالدراسات تؤكد و تضحد بذات الوقت الحجم الحقيقي لتأثير الإنسان، آخر دراسة قدمتها الأمم المتحدة توقعت ارتفاع منسوب المياة بمقدار قدم واحد هذا القرن إذا ما استمر الإنسان بحرق البترول و الغار و الفحم بذات الوتيرة، و هو رقم لا يُعتبر بالمرعب بتاتاً بل على العكس، هذا التقرير تم التشكيك به من قبل مجموعة كبيرة من المهتمين بقضية الاحتباس الحراري متوقعين ارتفاع المياة بالمحيطات بشكل أسرع و بمنسوب أكبر، لكن لنكون صادقين مع أنفسنا لا يمكننا الاعتماد على كل دراسة تدعي صحة موقفها من هذه الناحية فالعلم غير قادر على تقديم براهين ثابتة لا يمكن ضحدها من هذا الجانب و خصوصاً إذا ما عدنا لناحية عادة ما تتجاهلها تلك الدراسات و هنا بالطبع نتحدث عن تاريخ كوكب الأرض، التاريخ يخبرنا بأن أنتاركتيكا خسرت بالفعل كمية ضخمة من الجليد لمرات عدة قبل إكتشاف الإنسان للبترول و الغاز و الفحم و قبل طفرته التقنية، قبل حوالي 120 ألف سنة عندما كان المناخ أكثر دفئاً بمقدار حوالي درجتين مئويتين كان منسوب مياه المحيطات يزيد بمقدار 6 أمتار تقريباً عن ما هو عليه اليوم، عندها لم يكن هنالك احتباس حراري تسبب به البشر؟ لكن دائرة الحياة استمرت ليعود المناخ تدريجياً إلى الخلف نحو مناخ أكثر برودة و هو ما يعني ذوبان أقل للجليد و منسوب مياه أقل إرتفاعاً.

لقراءة تاريخ طبقات الجليد يستخدم العلماء جهازاً خاصاً على طريقة حفارات الآبار النفطية، يقوم هذا الجهاز بالحفر تجاه الصفائح الجليدية التي تكونت على مدار مئات الآلاف من السنين، يعمد العلماء بعدها لاستخراج قطع الجليد و إخضاعها لاختبارات خاصة لقياس عمرها الإفتراضي، و من هنا على سبيل المثال يمكننا قياس مدى تأثير المناخ على هذه القطع الجليدية على مدار مئات الآلاف من السنين ما يساعدنا على تأكيد أو ضحد فكرة تسبب الإنسان بذوبان أجزاء من القارة القطبية الجنوبية و تأثيره على مستقبل سطح الكرة الأرضية، أي نعم التغير المناخي حقيقة لابد و الاعتراف بها، أي نعم الاحتباس الحراري حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، و لكن طبع الأمر بالسوداوية و اتهام الإنسان بكل تفاصيل المشكلة و المبالغة بالتوقعات و تضخيم الأرقام لم و لن يخدم القائمين و المنتمين للبرامج الدولية المعنية للتصدي و الوقاية من تلك الأخطار التي قد نواجهها أو يواجهها أبناؤنا أو أبناؤهم من بعدهم، أي دراسة تعتمد على مدى عمري قصير أو تتجنب الخوض بتاريخ المناخ على كوكب الأرض يجب أن تواجه بالكثير من التشكيك و الكثير من الأسئلة، طرح الأسئلة أمام مثل هذه الدراسات هو أقوى سلاح نمتلكه على الإطلاق، فتصديق هذه الدراسات و كأنها شأن مسلم به لن يوصلنا إلا لطريق مسدود، فلو سلمنا بروايات المؤمنين بدور الإنسان السوداوي و تسببه بكوارث طبيعية لن يتمكن البشر من ايقافها أو النجاة منها و هي وجهات نظر شخصيات معروفة لا تزال تجاهر بذلك منذ ما يضاهي العشرين عاماً لكان العالم اليوم أكثر رعباً و أكثر دماراً مما هو عليه اليوم!

المنطق جميل، و التريث مع مثل هذه الدراسات مطلب أساسي، نعم سيرتفع منسوب مياه المحيطات مع نهاية القرن كما حدث قبلها بمئات السنين، و كلا لن تكون تلك نهاية العالم كما يريد البعض أن يصورها! هنالك بالتأكيد مشاكل أكبر و أكثر تأثيراً على البشرية و كوكب الأرض من ذوبان صفائح الجليد، ربما لا تجذب تلك المشاكل انتباه منتجي هوليوود كما تفعل أنتاركتيكا، لكنها ليست أقل أهمية على الإطلاق، فدعونا نرتب من أولوياتنا و نتأمل..

3 comments

  1. سلمت يمناك على المقال المشوق حقيقة

    أتفق معك بشأن المبالغة من قبل بعض المؤسسات الدولية الداعمة لجهود الاحتباس الحراري. بات الامر متعلق بالبزنس اكثر من كونه مشكلة لكوكبنا

    تحياتي لك محمد

    Like

  2. طرح جميل أستاذ محمد حقيقة استمتعت بقراءة المقال

    يعطيك العافية

    Like

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: