بعد حملات انتخابية و مناظرات إعلامية ملتهبة لأسابيع طِوال أُسدل الستار منتصف شهر مايو 2019 عن واحدة من أهم الانتخابات الأسترالية بآخر عقدين من الزمن، هذه الانتخابات حددت هوية و شكل الحكومة التي ستقود أستراليا خلال السنوات القادمة، 151 مقعد بمجلس النواب و نصف مقاعد مجلس الشيوخ كانت على المحك، أغلبية مجلس النواب كانت هي الصراع الأبرز حيث أن التكتل الفائز يتحصل بالضرورة على أحقية تعيين رئيس وزراء جديد للبلاد، الأستراليون خُيروا ما بين رئيس وزرائهم سكوت موريسون رئيس الحزب الليبرالي و منافسه بيل شورتين رئيس حزب العمل منذ عام 2013.
سكوت موريسون الذي عمل كوزير مالية بحكومة مالكولم تورنبول تبنى سياسات لها علاقة مباشرة بإدارة عجلة اقتصاد البلاد نحو طريق أكثر ثباتاً، حملته الانتخابية اعتمدت بشكل أساسي على الميزانية الفيدرالية التي عادت بفائض للمرة الأولى خلال العشر سنوات السابقة، و هو أمر سمح له بترويج فكرة تخفيض الضرائب لتخفيف حدة الضغوطات المالية عن حوالي 10 ملايين موظف أسترالي، هذا التركيز على الجانب الاقتصادي الذي يتخصص به موريسون جعل منه خياراً منطقياً لطبقة واسعة من أبناء الشعب الأسترالي ممن تأثروا بشكل مباشر من تراجع عجلة الاقتصاد بالبلاد.
بالجانب الآخر اعتمد بيل شورتين شعار التغير بعد سيطرة التكتل المحافظ على 3 دورات انتخابية متتالية، وعود بيل الانتخابية تضمنت خفض الضرائب لمنخفضي الدخل و التركيز على التأمين الصحي و التعليم بالإضافة لخفض نسبة الغازات المنبعثة بالجو و هي سياسة داعمة لتكتلات تدعم سن سياسة واضحة لتبني فكرة التغير المناخي و خطره على البلاد.
وسائل الإعلام الأسترالية كان لها دور مهم جداً من ناحية تبني المواقف أو حتى الترويج العلني لمرشحي جهة معينة على حساب أخرى، و حتى ساعات قليلة من فتح صناديق الاقتراع أظهرت جل استفتاءات الرأي التي نشرتها المؤسسات الإعلامية تقدم حزب العمل بواقع 4 نقاط على الأقل، هذا التفضيل لحزب العمل من قبل المؤسسات الإعلامية لم يكن مفاجئاً حيث أن جل هذه المؤسسات تميل لليسار بنسبة أكبر، الطريف بالأمر أن هذه المؤسسات تستمر بلعب ذات الدور المفضوح بتفضيل طرف على حساب آخر و هو ما قد يمكن أن يعتبر سلاح ذو حدين من ناحية تسببه برد فعل عكسي بذهن الناخب كما شهدنا بانتخابات و استفتاءات بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة و المملكة المتحدة.
المؤسسات الإعلامية حاولت أن تقنعنا قبل سنوات من خلال استطلاعات الرأي بأن الشعب البريطاني سيصوت للبقاء ضمن منظومة الاتحاد الأوربي، لكن تلك المحاولة فشلت مع نهاية ليلة الاستفتاء الشهير، المؤسسات الإعلامية حاولت مرة أخرى إيهامنا بأن هيلاري كلينتون ستنتصر أمام دونالد ترامب مستشهده بأرقام مدروسة و استطلاعات رأي حقة لا تشوبها شائبة، بنهاية تلك الليلة شاهدنا أكبر سقطة لمصداقية وسائل الإعلام الأمريكية و الدولية بتاريخ السياسة الأمريكية، حتى بأستراليا و على بعد عشرات الآلاف من الأميال حاولت وسائل الإعلام إيهام المواطن الأسترالي بأن الأمر محسوم و أن الحكومة ستتغير و أن تزعم المحافظين للحكومة سينتهي مع إغلاق صناديق الاقتراع، و لكن يا للمفاجئة! أو دعونا نقول يا للامفاجئة؟
إنتصر سكوت موريسون و تكتله الليبرالي المحافظ بالانتخابات مخالفاً التوقعات، ببساطة أحس المواطن الأسترالي أن استعادة أسلوب حياته و إزالة الضغوطات التي أثقلت كاهله من الناحية الاقتصادية تعني له أكثر بكثير من شعارات تبدو جميلة بظاهرها لكنها لا تقدم حلول فورية لمحفظة نقوده، نتائج هذه الانتخابات تشكل ضربة موجعة أخرى للحقوقيين و المهتمين بسن قوانين صارمة للتعامل مع التغيرات المناخية التي تعيشها أستراليا و العالم، بالعام الماضي فقط شهدت أستراليا موجة حارة ليس لها مثيل بتاريخ البلاد أرجعتها بعض تلك المؤسسات المهتمة بالتغيرات المناخية للاحتباس الحراري مطالبة بسن قوانين صارمة من هذا الجانب، غير أن الواقع يقول بأن أستراليا تعد أرضاً خصبه بموارد الطاقة، أستراليا تعد أكبر مورد فحم بالعالم أجمع، عشرات الآلاف من العوائل تعتمد اعتماداً كلياً على دخل أفرادها المستمد من شركات الطاقة و المناجم التي تتواجد بأجزاء مختلفة من البلاد، عشرات الآلاف من الوظائف ستختفي إلى الأبد و سيبقى عشرات الآلاف من الأستراليين بلا عمل في حال سن قوانين صارمة داعمة لإيقاف انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون و خلافه بالجو.
الأمر هنا لا يتعلق بمستوى ثقافة المواطن الأسترالي و لكن بطبيعة حياته و الفرص المتاحة له على أرض الواقع، من السهل لحملة الشهادات الجامعية ممن يعملون بقطاعات بعيدة عن الطاقة أن يصوتوا لسن قوانين صارمة تساعد على حماية البيئة و التقليل من أخطار التغيرات المناخية لأن تلك القوانين بدايةً و نهايةً لن تؤثر بشكل مباشر على أسلوب حياتهم، و لكن من الصعب جداً على المواطن الأسترالي الذي يعمل بجد طوال الأسبوع بتلك القطاعات أن يصوت لقوانين ستمنع عنه قوت يومه، فمن سيدفع فواتيره الشهرية؟ و من سيهتم بمصاريفه اليومية؟ مصاريف أولاده؟
من السهل جداً أن يقف الأكاديمي المتعلم صاحب الشهادات العليا أمام المئات من البشر ليملي عليهم الطريقة التي يجدر بهم أن يفكروا أو يتصرفوا بها ليحضوا بحياة أفضل من دون أن يساهموا بتلويث كوكبنا الأزرق الجميل، و لكن هل قدم هؤلاء حلول ناجعة تقي هذا العامل الكادح من خطر البطالة؟ ليس هنالك إنسان عاقل مستعد لرفض فكرة حماية بلده أو حتى كوكبه من أخطار التغير المناخي مادام مستقبله الوظيفي بمأمن، و بذات الدرجة ليس هنالك إنسان عاقل سيقبل التخلي عن وظيفته و دخول دهاليز البطالة للمساهمة بتقليل أخطار التغيرات المناخية التي قد لا تؤثر عليه أو عائلته بشكل مباشر!
الأستراليون بهذه الانتخابات صوتوا لحماية أنفسهم و عائلاتهم بالدرجة الأولى، فإعادة عجلة الاقتصاد المحلي للدوران أكثر أهمية و أكثر تأثيراً على حياة المواطن من التغيرات المناخية التي قد تؤثر على أسلوب حياته بعد عشرات أو مئات السنين، المواطن الأسترالي بعث برسالة أخرى للمؤسسات المهتمة بسن قوانين الحد من التغيرات المناخية مفادها التالي: “ قبل أن تفقدونا وظائفنا أوجدوا لنا بدائلاً لها “، المعادلة واضحة و ليست صعبة الفهم، و حتى يتم تفعيلها و استيعابها بشكل كلي لا يجدر بنا أن نتوقع تغييراً جذرياً لطريقة تفكير المواطن من هذا الجانب، هذا المواطن الكادح بات يفهم جيداً الطريقة التي يعمل بها النظام السياسي و بات مقتنعاً بأن صوته لم يعد مسموعاً بذات القدر بسبب انحياز معظم المؤسسات الإعلامية لأجندة لا تمثله بالضرورة، و عادةً ما تميل تلك الأجندة إلى اليسار أكثر منها إلى اليمين! لذلك صوت هذا المواطن للخروج من الإتحاد الأوربي، و لذلك توج ذلك المواطن دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، و لذلك فاز المحافظون بفترة أخرى من الحكم بأستراليا، و بالرغم من كل ذلك لا يبدو بأن تلك المؤسسات الإعلامية تنوي الحد من نزعتها الظلامية المتسمة بالتسلط و الانحياز بل و التقليل من المستوى الثقافي لكل من يختلف معها بوجهات النظر، بنظرهم لا تعد هذه انتخابات محلية بل حرباً فكرية يجب أن ينتصروا بها مهما كلف الثمن، لكن هاهم قد خسروا جولة أخرى كما خسروا جولات سابقة، أسلوبهم المتعالي لم و لن يتغير و الجولات القادمة ستكون أكبر شاهد على ذلك.
إذاً بالنتيجة كسب تكتل المحافظين المتمثل بالحزب الليبرالي و حزب أستراليا الوطني المعركة بعد أداء قوي للغاية خصوصاً بولاية كوينزلاند، و هذه الأخيرة أعرفها جيداً حيث قضيت فيها 9 سنوات كاملة، و لم تبدو هذه النتائج مفاجئة بالنسبة لي على الإطلاق، سكان هذه الولاية أكثر تحفظاً من سكان ولايات أخرى مثل فيكتوريا و من الطبيعي للغاية أن يرجحوا كفة المحافظين بهذه الانتخابات نظير السياسات المتبناه من قبل الأحزاب كلٌ على حدى، الغريب بالنسبة لي هو أن تعتبر وسائل الإعلام ما حدث أمراً مفاجئاً! و هو ما يؤكد لي بُعدهم عن الواقع كما حدث مع نُظرائهم ببلدان أخرى، كلٌ يغني على ليلاه، قد تمتلئ شاشات التلفزة بأصوات كثيرة تهدف للتأثير على الناخب بالتي و اللاتي حتى و إن أُجبرت على المبالغة أو الكذب، لكن صوت المواطن البسيط المثقل بأعباء الحياة يستحيل وأن يكذب.