قصة أخرى من قصص خيال العقل البشري تحولت مع مرور الوقت إلى حقيقة تثير الدهشة، رجل ببلاد الشرق سئم حرق التبغ و الرائحة الكريهة الناتجة عن تلك العملية فسرح مع نفسه ليخرج بتصميم أول سجارة إلكترونية بالتاريخ، بعد عدة أشهر التقطت العديد من المؤسسات حول العالم تلك الفكرة لتخلق سوقاً جديداً من العدم، إحدى تلك المؤسسات خرجت لنا بشركة JUUL المتخصصة بالسجائر الإلكترونية، من منظور تجاري لا يمكن إلا و أن أقف هنا قليلاً لأبدي إعجابي بالعمل الخارق للعادة الذي قدمه الثنائي جيمز مونسيس و آدم بوين من خلال بناء الشركة التي سيطرت على أكثر من 70٪ من السوق العالمي للسجائر الإلكترونية خلال عام واحد فقط، اليوم تتعدى قيمة الشركة 15 مليار دولار بعد أداء قوي حققت به عوائد تجاوزت ملياري دولار بالعام الماضي، هل يمكنك عزيزي القارئ تخيل صعوبة بناء شركة بهذا الحجم خلال هذه المدة القصيرة من الزمن بسوق حكمته أسس و قوانين و أسماء معروفة لسنوات طوال؟ الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق لكنه تحقق بعد دراسة مجدية لسوق التبغ الذي كان متهالكاً من الأساس، لتحقيق كل ذلك النجاح احتاجت JUUL مثل غيرها من شركات السجائر الإلكترونية إلى حجة تكسر بها هيمنة شركات التبغ على السوق، و قد كان لها ما أرادت من خلال استقطاب شريحة كبيرة جداً من المدخنين الذين استلطفوا فكرة الإقلاع عن التدخين، فجأة و من دون سابق إنذار رُوّج للسجائر الإلكترونية على أنها وسيلة المدخن للإقلاع، الرسالة كانت بسيطة واضحة المعالم مفادها “بدلاً من أن تدخن سجارة ستقتلك بيوم من الأيام دخن هذه السجارة التي ستبقيك حياً”، خلال عدة أشهر فقط كانت السجائر الإلكترونية تباع و تستخدم من قبل الملايين حول العالم.
ببداية انطلاقة و رواج السجائر الإلكترونية عاشت الشركات المنتجة ما يطلق عليه فترة شهر العسل، العملية الإنتاجية تكبر شيئاً فشيئاً و الأرباح تستمر بإذهال النقاد، مع نهاية عام 2018 زادت نسبة مبيعات JUUL بواقع 800٪ دفعة واحدة! أرقام فلكية حولت الأنظار نحو هذا السوق بشكل غير مسبوق، مؤسسات عملاقة أبدت اهتمامها بالاستثمار و استغلال هذه الطفرة الغير متوقعة، باتت هذه المنتجات بجميع أصنافها تستخدم من قبل المشاهير و الرياضيين و مذيعي البرامج المتلفزة، تحصلت الشركات المنتجة على دقائق إعلانية مجانية لا نهاية لها و مع كل ذلك الزخم كان هنالك تساؤل لا يزال يراود الكثيرين، هل هذه السجائر غير مضرة بالفعل؟
الإجابة قد تكون أكثر تعقيداً مما نتوقع! الأكيد أن السجائر الإلكترونية تعتبر وسيلة فعالة للإقلاع عن التدخين وفق عدد من الدراسات الموثقة و هو الأمر الذي صعب على منظمات الصحة على مستوى العالم اتخاذ موقف صارم ضد هذه المنتجات، و لعلي أعرج سريعاً لدراسة نقلتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بالثلاثين من يناير الماضي (2019) تتطرق لهذه الناحية، فقد أوضحت الدراسة التي نشرت بمجلة New England Journal of Medicine أن فعالية السجائر الإلكترونية بالإقلاع عن التدخين هي ضعف فعالية منتجات نيكوتين أخرى مثل اللواصق و العلكة المشهورة، المعادلة بسيطة للغاية فالسجائر الإلكترونية توفر للمدخن نسبة النيكوتين التي يحتاجها جسمه من غير الحاجة للتعرض للمواد السامة المسرطنة التي تنشأ من حرق التبغ، هذه الإيجابية كانت بلا شك سلاح الشركات العملاقة بهذا المجال لدخول سوق التبغ بكل قوة، لم يكونوا بحاجة للكثير من الإقناع من هذه الناحية و لكنهم احتاجوا للكثير من الدعاية و تلك الدعاية على ما يبدو كانت وسيلتهم لتحقيق أرباح طائلة مصحوبة بمشاكل قانونية لا نهاية لها، فحقيقة نجاعة هذا المنتج و فعاليته بالإقلاع عن التدخين لا تعني بأي حال من الأحوال أنه غير مضر بالصحة!
بشهر نوفمبر من عام 2018 أعلنت وزارة الغذاء و الدواء الأمريكية ارتفاع نسبة مدخني السجائر الإلكترونية بنسبة 80٪ بين طلاب المدارس الثانوية و 50٪ بين طلاب المدارس المتوسطة مما تسبب بصدمة ليس لها مثيل، يبدو أن المنتج الذي قُصد منه مساعدة المدخنين بالإقلاع قد يتسبب بإدمان مئات الآلاف من الأطفال على النيكوتين، بدأت وسائل الإعلام الأمريكية تتناول المشكلة بجدية أكبر لتتزايد الضغوط على الشركات المنتجة شيئاً فشيئاً من قبل الوزارة التي أعلنت أخيراً أن السجائر الإلكترونية وباء متفشي يشكل خطراً محدقاً بالأجيال القادمة، و لنكون أكثر دقة من هذا الجانب فإن المشكلة هنا لا تتعلق ببيع هذا المنتج فقط بل بطريقة الترويج له، فقد أكدت الدراسات المعنية أن معظم الشركات و من ضمنها JUUL قد سوقت لمنتجاتها بأسلوب معين جاذب للمراهقين، حيث اعتمدت هذه الشركات تصاميم معينة تثير انتباه صغار السن من ناحية الشكل و اللون و إمكانية تصميم السجارة الإلكترونية الخاصة بك و طبع صورتك أو ما شاء لك من الرموز على سطحها الخارجي، حتى اختيار النكهات مثل نكهات الفواكه و الشوكولا و الريد بول و المئات من النكهات الأخرى تسبب بانجذاب شديد لطلاب المدارس الذين باتوا معتادين على تدخين هذه المنتجات دون رقابة فعلية، بالواقع أتاحت هذه المنتجات لصغار السن فرصة التدخين من غير أي رقابة حيث أنها منتجات صغيرة الحجم يمكن حملها و إخفائها بالجيوب و الحقائب و لا تتسبب بالروائح الكريهه، لقد كانت بالفعل المنتج المثالي لإحداث مشكلة كبيرة للأجيال القادمة، و قد كان..
مع مرور الأيام بدأت الدراسات حول هذه القضية تستقطب اهتمام الباحثين بأكبر الجامعات حول العالم، و يمكن الرجوع لعشرات الدراسات التي تؤكد خطر هذا المنتج على صحة الإنسان، أبرز تلك الدراسات و أحدثها نشرت يوم الإثنين 27 مايو (2019) عن طريق Journal of the American College of Cardiology حيث تطرقت لخطر السوائل الكيميائية المستخدمة بالسجائر الإلكترونية مع أو من دون إضافة النيكوتين، نسبة للدراسة فإن النكهات المستخدمة يمكن أن تمنع خلايا الإنسان قدرتها على العمل و الاستمرار مما يتسبب لأضرار بالأوعية الدموية و يرفع نسبة امكانية التعرض لأمراض القلب بالمستقبل، المسؤول عن الدراسة الدكتور جوزيف وو مدير معهد ستامفورد للقلب و الأوعية الدموعية أرجع اهتمامه بهذا الموضوع للإقبال المقلق من قبل صغار السن على تدخين هذه السجائر، بالنسبة للدكتور جوزيف فإن كل طفل يدخن هذه السوائل الكيميائية بنيكوتين أو من غير ذلك عرضة لأمراض القلب خلال فترات لاحقة من حياته و على ذلك يسعى من خلال هذه الدراسة لرفع سقف توعية الأهالي من هذا الجانب، بنظره يبدو كل طفل مستخدم لهذه المنتجات المضره مرشحاً بنسبة لا بأس بها ليكون أحد مرضاه بالمستقبل و هذا ما يسعى جوزيف لتفاديه.
وفق دراسة أخرى أجريت من قبل مجموعة من الباحثين بجامعة هارفارد و نشرتها مجلة Enviromental Health Perspectives بوقت سابق من العام الحالي (2019) فإن بعض منتجات السجائر الإلكترونية التي تلقى رواجاً واسعاً بالولايات المتحدة وجدت ملوثة بالبكتيريا و الفطريات الضارة، الدراسة اختبرت 75 منتج من بينها منتجات لاستخدام واحد و منتجات يمكن إعادة تعبئتها، 75٪ من المنتجات احتوت على Endotoxin الذي يمكن إيجاده بالبكتيريا، بينما احتوت 81% منها على آثار لـ Glucan الذي يمكن إيجاده بالفطريات، البكتيريا وجدت بنسبة أكبر بنكهات الفواكة و هو ما ينبئ بأن الأدوات التي استخدمت أثناء عملية الإنتاج قد تكون ملوثة بقدر معين أو أن المنتج تعرض للتلوث أثناء تعبئته، بكلتا الحالتين سيصل هذا المنتج إلى المستخدم ملوثاً.
هنالك العشرات من الدراسات المماثلة التي تؤكد خطر هذه المنتجات على صحة الإنسان نشرت من قبل أكبر المراكز البحثية على مستوى العالم على مدار الأشهر الماضية، و يبدو بأن الدول الكبرى قد أحست بالفعل أن الخطر حقيقي و إلا لما استخدمت كلمة “وباء” التي تثير القلق بحد ذاتها لوصف هذا المنتج، بالمحصلة سيستمر بيع السجائر الإلكترونية بهذه الدول وفق أسس و ضوابط معينة و لكنها لن تُمنع، منعها بشكل تام سيكون أمر مثير للسخرية على اعتبار أنها أقل ضرراً من التبغ، و لكن منع وصولها لأيدي طلاب المدارس و المراهقين يجب أن يكون أولوية قصوى و هو عمل توعوي يجب أن تشارك به جميع أطياف المجتمع بلا استثناء، و على الأهالي مسؤولية مضاعفة لتوعية أبنائهم و فتح باب الحوار من هذا الجانب، فاستخدام هذه المنتجات من قبل المراهقين لا يقتصر على بلد معين أو مدينة معينة، هو بالفعل وباء سبق و أن انتشر بكل مكان..