منذ اليوم الأول لأداء دونالد ترامب القسم الرئاسي ليصبح الرئيس الخامس و الأربعين بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، عكف الديمقراطيون بلا ادخار أي جهد لإيجاد طريق سالك لعزله من منصبه، و لم تكن مشاعر الديمقراطيين اتجاه الرئيس خفية على أحد حيث جاهروا بتلك الرغبة مرارًا و تكرارًا عبر وسائل الإعلام المختلفة طوال الأشهر الماضية، قفزات واسعة من موضوع إلى آخر و من تحقيق إلى آخر دون تحرك جدي بهذا الاتجاه، حتى تحقيق تدخل الروس بالانتخابات الأمريكية و إمكانية تواطؤ ترامب بالعملية لم ينتج عن شيء يذكر للديمقراطيين الذين راهنوا على روبرت مولر لإسقاط دونالد ترامب من منصبه، كل تلك الأشهر المليئة بالمواضيع الشائكة مضت ليقرر الديمقراطيون الآن بدء مراسم عزل الرئيس بسبب مكالمة هاتفية!
الموضوع ليس معقد على الإطلاق، مكالمة هاتفية بين دونالد ترامب و الرئيس الأوكراني تحدث خلالها الجانبان عن عدة مواضيع من بينها عقد عمل هنتر بايدن ابن نائب الرئيس السابق و المرشح الرئاسي الحالي جوي بايدن، دونالد ترامب يرى أن هنتر استفاد من سلطة والده للتحصل على عقد عمل لا يستحقه بالإضافة إلى تدخل بايدن نفسه لمنع المحققين الأوكرانيين من مراجعة وضع ابنه خلال إحدى التحقيقات الوشيكة، و على ذلك طلب ترامب من الرئيس الأوكراني إجراء تحقيق بهذا الشأن بشكل غير مباشر، و هو أمر جاهر به ترامب مسبقًا على أية حال أي أنها ليست المرة الأولى التي يطلق بها هذه المزاعم، غير أن وجهة نظر الديمقراطيين ترى أن طلب ترامب هذا يعد دعوة صريحة للجانب الأوكراني للتدخل بالانتخابات الأمريكية القادمة، و على ذلك أعلنت نانسي بولوسي رئيسة مجلس النواب و الإسم الديمقراطي الأقوى على الساحة بدء إجراءات البحث بعزل الرئيس بالرغم من أنها رفضت البدء بإجراءات مماثلة بعد نهاية تحقيق مولر.
يا ترى هل اعتبرت بولوسي أن التعدي على بايدن يتجاوز الخطوط الحمر؟ أم أن الضغط المتواصل من قبل نواب اليسار المتشدد على نانسي قد آتى ثماره أخيرًا؟ الأهم من كل ذلك كيف سيؤثر قرار نانسي هذا على الانتخابات القادمة؟
تسيدت علامات الفرح ملامح كارهي ترامب و نظرائه السياسيين بالساعات الماضية، و باتت عناوين أبرز وسائل الإعلام الأمريكية تتزين بجملة “عزل الرئيس” و هي جملة قد توهم المتلقي البسيط بأن الأمر بات محسومًا و أن عزل دونالد ترامب من منصبه و رحيله عن البيت الأبيض بات مسألة وقت لا أكثر، غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك، الديمقراطيون أنفسهم يتراقصون حاليًا على أنغام عزل الرئيس غير أن بداخلهم يتسيد يقين عدم حدوث ذلك، ليعزل الديمقراطيون الرئيس من منصبه هم بحاجه لثلثي مجلس الشيوخ الذي يسيطر على أغلبيته الجمهوريون بواقع 53 مقعد، قائد الأغلبية ميتش مكانول كان قد أعلن صراحةً بأن أي محاولة لعزل الرئيس سيتم رفضها و قتلها مباشرةً بمجلس الشيوخ بلا أي تأخير، إذًا لماذا وافقت نانسي بولوسي على بدء إجراءات عزل الرئيس؟
التفسير المنطقي الوحيد لهذا القرار أن قلق الديمقراطيين بات يتزايد من فوز دونالد ترامب بفترة رئاسية ثانية مع انتعاش الاقتصاد الأمريكي و زيادة الجمهوريين لمقاعدهم بمجلس الشيوخ خلال الانتخابات النصفية، و على ذلك قرر قادة الحزب الديمقراطي أن يقحموا ترامب بإجراءات العزل التي لن تتسبب بعزله على أرض الواقع و لكنها ستكون عقبه أمام تحقيقه للمزيد من التقدم على مختلف الأصعدة، خلال إجراءات العزل سيعكف الديمقراطيون على تصوير الرئيس بالشخص الغير كفؤ بهذا المنصب للتأثير على شريحة المصوتين المستقلين التي فضلته على هيلاري كلينتون بانتخابات 2016، أما قاعدة ترامب الجمهورية و المحافظة فهي صلبة و من غير المنتظر أن تتزحزح عن موقفها منه مهما حصل، الجانب المظلم من هذا القرار قد يكون خسارة الديمقراطيين لعدد من مقاعد مجلس النواب بالانتخابات القادمة و خصوصًا بالولايات التي تحصل عليها ترامب بانتخابات 2016.
بشكل عام ستزيد هذه الإجراءات من الانقسام الحاد بأوساط المجتمع الأمريكي، و هو ما سينعكس بشكل مباشر على الانتخابات الرئاسية لعام 2020، الوقت فقط سيحكي لنا فصول قصة أكثر الفترات إثارة بتاريخ السياسة الأمريكية الحديث، و بنهاية تلك القصة فقط سنتعرف على المنتصر الحقيقي بين أصدقاء الأمس، نانسي و دونالد.